• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أدب رفيع.. يقوم على الإيمان والبيان

د. عبدالعلي الجسماني

أدب رفيع.. يقوم على الإيمان والبيان

إنّ الثروة الإبداعية في الأدب العربي جذورها موغلة في القِدَم في حياة العرب من أيام الجاهلية. وما أكثر الأدبيات وما أكثر الدراسات التي تناولت العصر الجاهلي وما أُبدع فيه من شعر، ونثر، ولغة. فأصبحنا اليوم نرجع إليها في بطون المعاجم لنفهم معانيها الدقيقة بعد أن كان أولئك يتداولونها مفردات في حياتهم اليومية وفي تعاملاتهم التجاربة والعادية.

لكن فضل القرآن على تلك الثروة الفكرية أنّه صقلها وهذّبها، وجعل منها نهضة من طراز فريد؛ حيث نجد كثيرين من المهتمين بالتراث العربي الجديد، من غير العرب، يهتمون اهتماماً خاصّاً بهذا الأدب وعلومه، وقد وجهوا جلّ عنايتهم بخاصّة إلى الكيفية التي أثّر القرآن فيها بهذا الإنتاج العقلي الجم.

إنّ تأثيرات القرآن الإبداعية في الأدب قد انطبعت على مختلف مناحي الحياة ومنها التجديد الفكري مضافاً لما سبقه من إبداع أدبي. ومنها إرساء قيم ثقافية جديدة. ومنها تأثر المشاعر الجمالية الأساسية على نحو فريد.

لقد كوّن هذا التوجه الروحي الجديد عند العرب والمسلمين كافة:

(شعوراً بوجود بديل آخر عن الواقع. وبكلمة موجزة، فإنّ هذه التأثيرات الإسلامية وسعت النظرة الغريبة إلى العالم وجعلتها أكثر تنوعاً. وليس من شك في أنّ ذلك أغنى الأدب الغربي بدرجة لا حدّ لها، وكان أحد العوامل التي مكنت هذا الأدب من التطور في اتّجاه نوع من العالمية كان جديداً في تاريخ الإنسانية).

الواقع الجديد للأدب العربي المتأثر بإبداع القرآن قد تمكّن من التعريف بنفسه بسرعة مذهلة، وتمكّن من الانتشار حتى عرفه الغربيون وأرّخوا له من مصادره البيئية. فنقرأ مثلاً:

(ويمكن استنتاج وجهة النظر الإسلامية فيما يتصل بالأدب بصورة محددة من خلال الطريقة التي صنف بها ابن النديم مادة كتابه "الفهرست"، وهو سجل شامل للكُتب ألف حوالي عام 377هـ- 987م. فالقرآن والعلوم القرآنية تأتي في المرتبة الأولى لأسباب دينية وتاريخية لا مفر منها. وفضلاً عن ذلك كان القرآن – ولا يزال وسيبقى – يمثل وثيقة لغوية ذات أهمية لا تُضاهى. وكان ينظر إليه كمصدر للعلم بالنحو واللغة. كما اعتبر أسلوبه الفذ الذي لا يُجارى مقياساً تقوم عليه نظريات النقد الأدبي. والحقيقة أنّ الاستعمال الصحيح الرفيع للغة كان المعيار الحاسم في تقسيم ابن النديم للأدب. ولذلك كان من المنطقي أن يورد ابن النديم، بعد علوم القرآن النحويين واللغويين ومؤلفاتهم، إذ إنّ هؤلاء يقدمون الأساس الضروري لجميع الجهود الأدبية. ويتلو فقه اللغة كتابة التاريخ والشعر. وتلك هي ميادين التعليم الرئيسية الثلاثة التي تتطلب الاستعمال الفني للغة. وتتضمن الأعمال التي ألفت في هذه الميادين كتابات علمية وتعليمية).

والفهرست لابن النديم تحليل دقيق للإنتاج الفكري الضخم والعميق تناوله ابن النديم بالتثبّبت والتحقيق مبيّناً تأثر النهج الجديد في الأدب والعلوم بنفحات الدين الإسلامي الجديد الذي يقول عنه الأستاذ هاملتون جب (إنّ الإسلام ليس ديناً بالمعنى المجرّد الخالص الذي نفهمه اليوم من هذه الكلمة بل هو مجتمع بالغ الكمال يقوم على أساس ديني ويشمل كلّ مظاهر الحياة الإنسانية).

ولنا أن نسأل: بمَ تتميز نظرة ابن النديم إلى الأدب؟

وبماذا يخرج منها الباحث؟

الجواب نجده في هذا النص:

(النتائج التي تستخلص من نظرة ابن النديم إلى الأدب واضحة، فهناك أدب جاد ممتع لا يخلو من فائدة كبيرة. وهذا يعّلمنا أساسيات اللغة ونواحي جمالها، وكان من وظائفه أن يحافظ على كلّ القيم الثقافية الموروثة ويجدّدها، باستثناء تلك القيم المتعلقة بالدين والعلم. وهناك أيضاً نوع من الأدب القصصي العابث للتسلية والمتعة، له طابع شعبي، ولا يستحق أن يسمى أدباً. وقد أدى إزدهاره إلى الاعتراف به على مضض، ولكن أصحاب العلم الحقّ كانوا كقاعدة عامة يهملون هذا النوع من الأدب حالما يتخطون القدرات الفكرية المحدودة التي تلازم الطفولة، وكذلك مستوى جمهور غير المتعلمين. وكان هذا هو موقف ابن النديم من الأدب، وهو موقف يمكن باطمئنان أن نقول إنّه كان موقف جميع المفكرين المسلمين دون استثناءات تُذكر.

وأدى إتقان اللغة وتناولها بطريقة فنية، بوصفه الشرط الأوّل لكلّ إنتاج أدبي ذي قيمة، إلى تأكيد تفوق اللغة العربية وتبوئها المكانة الأولى بين اللغات التي تتكلمها الشعوب الإسلامية. فعلم النحو وتصنيف المعاجم مدينان بصفة خاصّة لعبقرية اللغة العربية، والظروف الخاصّة التي رافقت تطورها في الجاهلية والإسلام. صحيح أنّ التراث العلمي الإسلامي قد نسج كثيراً من الأساطير حول التاريخ القديم لدراسة هذين العلمين منهجياً، ولكن أغلب الظن أنّ انتماء اللغويين المبدعين الكبار إلى أصول غير عربية ليس معناه أنّ علمي النحو والمعاجم العربيين قد تطورا بشكل أساسي بتأثير الاحتكاك باللغات الأخرى، وإنما نشأ هذا التطوّر من الظروف القائمة في الوضع اللغوي للعربية نفسها، كما هو الحال بالنسبة للفارق الكبير بين لغة الشعر الرفيعة ولغة القرآن من جهة، وأشكال لهجات التخاطب من جهة أخرى. أمّا التأثيرات الأجنبية فيبدو أنّها كانت ذات تأثير منشط في الدرجة الأولى. وهكذا يبدو أنّ التحقق من وجود معاجم إفريقية رومانية، بالإضافة إلى وجود مؤلفات نحوية سريانية متأثرة على نحو ما بمنطق الإغريق، كان حافزاً لجهود العلماء المسلمين في هذا الميدان. وهناك أيضاً احتمال كبير في أن يكون الإلمام بالخصائص الصوتية للغة الهندية قد أسهم في تشكيل الآراء المتعلقة بعلم الصوت عند الخليل بن أحمد، وهو أبو علمي المعاجم والعروض عند العرب، وقد امتدت حياته طوال معظم القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي. أما تجويد نظرية النحو فقد بلغ ذروته من قبل في نفس ذلك القرن في كتاب سيبويه، وأدت الحاجة العلمية إلى ظهور إنتاج غزير في النحو بقي مميّزاً للدراسات النحوية. ولما كانت هذه الدراسات تعتمد أساسياً على الأسلوب الوصفي، فإنّ هذا العلم بقي علماً صعباً، ولكنّه كان مع ذلك ميداناً عظيم الأثر لتدريب أهل الأدب والعلم. كذلك فقد تطوّر علم المعاجم بسرعة، وأدرجت الدراسات المعجمية الصغيرة التي تناولت موضوعات خاصّة في مجموعات من عدة مجلدات مكونة معاجم مرتبة حسب الموضوعات. ونمت المعاجم التي قامت على قاعدة أصل الكلمات وفق ترتيب أبجدي حر، حتى أصبحت تضم مصنفات ضخمة التزمت الترتيب الأبجدي التزاماً تاماً، إمّا على أساس أوّل حرف في أصل الكلمة أو آخر حرف فيها. أمّا المعاني المختلفة الواسعة المدى التي تندرج تحت نفس الأصل فلم تكن ترتب وفقاً لنظام واضح. وكثيراً ما كانت تعريفات المعاني تعتمد على شواهد مقتبسة من القرآن والأحاديث النبويّة أو أبيات من الشعر لها صلة بالموضوع، مما أدى إلى اكتساب هذه المؤلفات مذاقاً أدبياً واضحاً.

أمّا إسهام فقه اللغة في الأدب فيتمثل في وضع عدد كبير من الحكايات والنوادر التي تتسم بالظرف أحياناً والإملال أحياناً أخرى، وهي متكلفة في أحيان كثيرة، وتدور حول النحويين واللغويين والأسرار الخاصّة بعلمهم. كما تمثلت هذه المساهمة في جمع الأمثال وشرحها. ففي بلاد المشرق الإسلامي احتفظ المثل بوظيفته الكبرى، وهي تنميق كلّ تعبير لفظي على المستويين الشعبي والأدبي. وتظهر حيوية هذا النوع الأدبي في استمرار استحداث أمثال جديدة، حتى غدت الأمثال التي لا تُحصى المعروفة في الأدب الوسيط غير مطابقة للمجموعة الكبيرة المتوافرة من الأمثال الجارية في الاستعمال الحديث. وفي مقابل المثل نجد الحكمة ذات المحتوى الفلسفي الشعبي. فقد كانت مجموعات من أقوال الحكماء القدماء، وبخاصّة الإغريق، تؤلف قطاعاً دُرِس بعناية، وكان له تأثير واسع، من قطاعات أدب التسلية والامتناع، الذي كان في الوقت ذاته أدباً تعليمياً وتهذيبياً).

هذه الرسائل والمؤلفات كانت تكوّن صميم النثر الفني الإسلامي الخالص في العصر الوسيط. وقد استمدت مادتها من نوع الأدب المعروف يومذاك باسم (أدب الأمراء)، ومن النظريات الأخلاقية، ومن دراسة أنماط الأفراد، والفكر الديني الملهم، كما استمدتها من ميادين العلم الأخرى).

كان للبواكير الأولى تلك من الأدب العربي معاييرها الفريدة في المنهجية والتطوّر. وتفتحت للأدباء أنفسهم وللباحثين على حدٍّ سواء آفاق جديدة لم تكن تخطر على بال. فلم يتوقف الفكر العربي الإسلامي عن الحركة والتجدّد، فنما وتشعّب، وتعددت فيه المدارس الفكرية، وتنوّعت فيه الأنظار والنظريات الأدبية.

أصبح ذلك الفكر واسعاً سعة العوالم التي انتشر فيه. فكانت هناك عقول تتوقد حيوية ونشاطاً، وأذهاناً تتفجر علماً وعطاءً. لذا راح الغربيون آنذاك ينكّبون على دراسة الفنون الأدبية الجديدة عند العرب المسلمين، فهم ضروباً صنّفوها، وإلى مبتكريها والبارعين فيها أرجعوها.

لقد تكلّم الغربيون المهتمون بالتراث العربي الإسلامي بإسهاب وإعجاب عن أساطين المبدعين في الأدب العربي وفنونه. وما فاتهم قط أن يربطوا هذه الوقدة الذهنية العقلية بجذوة الإيمان القرآنية والخلوص للدين الجديد.

فهم مثلاً تحدثوا عن ابن النديم صاحب الفهرست، وعن الخليل بن أحمد الفراهيدي (أبو المعاجم والعروض) كما وصفوه، وقد تقدم الحديث بشأنهما. وهم ذكروا، أسماء لألاءة في سماء الأدب والعلوم الأخرى.

(يعتبر الجاحظ (159-255هـ/ 776-869م) أرفع ممثل لهذا النوع من الأدب. فقد وُلِد الجاحظ ونشأ في البصرة، وأمضى معظم سني حياته الطويلة في العاصمتين العباسيتين بغداد وسامراء، أديباً وداعية لمبادئ المعتزلة. وكانت روح الشك والنقد والبحث منتشرة في عصره أكثر مما كانت عليه في أي وقت سابق من العصر الإسلامي الوسيط، وأكثر مما ستكون عليه في أي عصر لاحق. وقد ساعدت هذه الروح الجاحظ على التطلع الواسع المدى والكتابة بأسلوب فكه ذكي واسع الأفق. ويصدق هذا على كلّ آثاره الأدبية الكبيرة والصغيرة، سواء كانت هذه الآثار تتناول الحيوان، والبيان، والشعر، والصفات المميزة للأُمّم والشعوب، والصفات الخلقية والسلوك الجنسي، والحرف المتنوعة وطرق كسب العيش، أو غير ذلك من المسائل التي لا تُحصى. كما شجعت تلك الروح على اتباع المؤلف لطريقة الجدل التقليدية، بحيث يدافع عن المتضادين في الموضوع الواحد، ويدرك جوانبه الطيبة وجوانبه السيِّئة، أو يهاجم ظاهرتين متعارضتين أو رأيين متناقضين. وكانت القاعدة المتوازنة في التأليف الأدبي هي جمع خليط من النوادر التي يربط بعضها ببعض رباط واهٍ ضعيف. وقد سادت هذه القاعدة جميع كُتب الأدب الإسلامي فيما عدا المؤلفات العلمية التي تأثرت بالفكر الهلينستي. وقد تؤدي هذه الطريقة إلى استطرادات لا علاقة لها بصلب الموضوع، ولكن استعمال الجاحظ لها كان عادة يساعد على توسيع فهم القارئ لكلّ ما يتضمنه موضوع البحث. وقد استطاع الجاحظ تحقيق أعظم تأثير له من خلال أسلوبه المتميّز في الكتابة، ومن الشائع أن يوصف أسلوبه بأوصاف مثل "متألق" و"لماح" أو شابه ذلك، ومع أنّ هذه أوصات عقيمة وغير ذات معنى في ذاتها، فإنّه من العسير أن نجد ألفاظاً أخرى منها تعبر عن مزايا هذا الأسلوب. فهذا الأديب يظهر تمكناً تاماً من مفردات اللغة العربية بكلّ غناها. ويخرج المرء بانطباع عام حول كتابات الجاحظ يتلخص في أنّها تضم معيناً لا ينضب من الألفاظ المتألقة والعرض المضني للقدرة العقلية الفائقة، وهو عرض لا يلجأ إليه الأديب لذاته، وإنّما جاء ذلك نتيجة لاهتمامه العميق بمواضع القوّة والضعف الخلقي والعاطفي للإنسان ودنياه).

بقيت شهرة الجاحظ لا تُضارع، واستمرت سمعته الأدبية لا تُقارع، وظلّ هكذا شأنه حتى يومنا هذا. وقد ظهر فيما بعد عدد من المبدعين المتأخرين ممن يمكن مقارنتهم به:

(وإذا كان هناك إنسان يمكن أن يوصف بأنّه أديب عربي متكامل فهو أبو حيان التوحيدي الذي توفي وهو طاعن في السن، في أوائل القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، بعد عام 400هـ/1009م. وينتمي هذا الأديب إلى عصر يختلف عن عصر الجاحظ، كانت فيه الفلسفة والدين قد أوشكا على اتّخاذ طابعهما الإسلامي المميز بصورة نهائية، وإن لم يكونا قد وصلا ذلك الطابع بصورة كاملة. ولم يكن رجال الحكم من المراتب المتوسطة والعالية الذين كان التوحيدي يتردد عليهم، مجرد تروس في آلة الجهاز الإداري لدولة كبيرة، وإنما كانوا يشعرون بأنّهم هم أنفسهم الذين يدبرون الأمور ويصنعون التاريخ. ولقد كان سر الجاذبية غير العادية في كتابات التوحيدي، يعود إلى ظهور شخصية المؤلف فيها بصورة واضحة، بالإضافة إلى طبيعة المشاكل الخاصّة التي تناولتها هذه الكتابات. وفي هذه النواحي تعتبر كتابات التوحيدي مؤلفات لا نظير لها من بين الكُتب الباقية من التراث الإسلامي الوسيط، كما أنّ أسلوبها البالغ الإحكام يتسم بروعة ملحوظة، ولكنّه لا يعدّ بدعاً في ذلك العصر.

وأحرز الاهتمام الشديد بدراسة اللغة والأسلوب نجاحاً كبيراً آخر، تمثل في ظهور عدد ضخم من المؤلفات في النقد الأدبي. ولقد استمدت هذه المؤلفات بعض أفكارها من المصادر القديمة، ولكنّها كانت في المحل الأوّل ابتكاراً أصيلاً لأهل الأدب من المسلمين. وترجع بدايات هذا النوع من التأليف شأنها شأن كثير من الأمور المهمة في الحضارة الإسلامية، إلى أواخر القرن الثالث الهجري، القرن التاسع الميلادي. ولم تقتصر العناية المستمرة فيه على اللغة العربية وحدها بل شملت آداب اللغات الأخرى التي كان من السهل أن تطبق عليها قواعد النقد الأدبي ومناهجه. وقد اهتم النقد الأدبي بتحليل فنون التعبير المجازي في الشعر والنثر، وبذلك أسهم بدور كبير في فهم روائع اللغة والإعجاب بقدرتها الفنية).

أمّا ما يخص التاريخ والاهتمام فقد (لقي عناية وتقديراً كبيرين في عالم الإسلام). وقد تم الاعتماد فيه على تمكين الإحساس بمعنى الوجود الإنساني ومغزاه في ضوء معطيات الدين الجديد ومفاهيمه وروحه النابضة بالحياة.

وفي سياق العناية بالتاريخ والاهتمام به يردد المؤلفون الغربيون ذكر ابن خلدون (732-808هـ/ 1332-1406م) ومسكويه (ت 421هـ/ 1020م). ويصفون عنايتهما بالأدب والتأنق اللفظي في اللغة. ويصفون ابن خلدون بـ(العظيم)، (ويستند إلى الشهرة الخالدة لمقدمته، وهي المجلد الأوّل من تاريخه العالمي الكبير، إلى الإسهام الأساسي الذي قدمته للمعرفة).

بيد أنّ الشعر قد استمر كظاهرة ثابتة في حياة العرب. لكنّه تأثر بالدين الجديد. وما فتئ أن أُدخلت فيه ضروب شعرية جديدة وكلّها تتسم بالجمالية والإتقان فمن:

(الجلي أنّ الشعر يمثل التراث الأساسي للجاهلية العربية في الإسلام، إذ إنّ شكله الأساسي – أي أوزانه التي تتضمن عدداً من البحور الشعرية المحددة، وأبياته التي يتألف الواحد منها من شطرين متساويين في الوزن، والتزامه قبل كلّ شيء بالقافية على شكل حرف أو مقطع في نهاية كلّ بيت، مع المحافظة على هذه القافية طوال أبيات القصيدة – هذا الشكل الأساسي للشعر، يرجع دون شك إلى عصر ما قبل الإسلام. وينطبق هذا أيضاً على المحتوى الرئيسي للشعر الذي يمكن أن يوصف بأنّه غنائي بالدرجة الأولى. وقد عبّر هذا النوع من الشعر عن أحاسيس الشاعر الشخصية وتطلعاته وخبرته في الحب والحياة، بالإضافة إلى علاقاته في السلم والحرب مع الصديق والعدو ومع قبيلته ومع الغرباء. أمّا اللغة التي اختيرت لتناسب التعبير الشعري، فهي الفصحى بمقوماتها النحوية التي احتفظت بها منذ أقدم العصور، والتي كانت تستبعد تماماً فيما يبدو معظم أشكال لغة التخاطب منذ العصر الجاهلي. وكانت ألفاظ الشعر غنية ويتجلى فيها ميل ملحوظ إلى استعمال المفردات الأقل شيوعاً، بل والغريب من اللفظ في أحيان كثيرة. وقد تكون القصيدة طويلة ومتينة السبك، ولكن بيت الشعر المنفرد يظل الوحدة الأساسية فيها. وكان التوفيق الذي يحالف بيتاً واحداً من الشعر كفيلاً بتحديد قدر الشاعر أو القصيدة. وقد أدى التحوّل من البيئة العربية البدوية إلى حياة المدن الإسلامية إلى زيادة اهتمام الشعراء بالأحوال والتقاليد الخاصّة بحياة أهل المدن، وكذلك الاهتمام بالتجارب المتنوعة لحياة أغنى وأكثر رخاء. وابتداء من العصر الذهبي العباسي، أطلع ذلك كلّه إنتاجاً شعرياً أقرب إلى التجربة الجديدة التي دخل فيها العرب وإلى الذوق الجديد الذي واكبها، منه إلى الصيغ التي وصفت بها بطولات الحياة الصحراوية القاسية. لكن ضروب الشعر الموروثة والمفهوم الأساسي لمقومات الشعر، برهنت على أنّها ثابتة بصورة غير عادية، وظلّت عملياً على هذا الحال دون أن يطرأ عليها تغيير كبير حتى يومنا هذا. ومازالت حركات التجديد الهادفة إلى إدخال ضروب شعرية جديدة تخوض معركة شاقة ليقبلها الناس على نطاق واسع. وقد ابتكر على مرّ العصور قدر كبير من الصور الجمالية والسمو العاطفي التي تمثل تنويعات لا حد لها على موضوعات رئيسية ثابتة. وتم ذلك من خلال الاستعمال المبدع للثروة الغنية التي تتمتع بها اللغة العربية بشكل لا يُضاهى. وكان تقدير الشعر ظاهرة عامّة لا تقتصر على الذين يحظون بقسط وافر من التعليم اللازم لذلك. كذلك فقد كُتب على هذا الموال شعر كثير من لغات أخرى غير العربية. ولكن، على حين أنّه كان هناك بطبيعة الحال تراث شعري قديم لدى جميع الشعوب الإسلامية قبل أن تدخل في الإسلام، فإنّ أشكال الشعر العربي وما كان يفضله الشعراء من الصور الجمالية ظلت غالبة على نطاق واسع. وربّما كان من الأسلم القول إنّ هذه الأشكال الشعرية أثرت وتأثرت على نحو يصعب علينا تحديد تفاصيله، وأدى هذا التفاعل إلى ظهور نوع من الشعر في عالم الإسلام يتسم بالتجانس الشكلي والجمالي، بغض النظر عن اللغة التي صيغ فيها).

فلا عجب أن تكون أساس كلّ ذلك في الوهج القرآن متأصلة. ولا عجب أيضاً أن تستيقظ أُمّة بكاملها من وهدة رقدتها، فتنطلق انطلاقة جديدة إلى سوامق نهضتها. فلم يقتصر الأمر على العرب وحدهم في تأثرهم بهذا النور الهادي. بل إنّ كلّ من استظل بظله وتنفس في رحابه صار قمة بين قمم أخرى أمثاله.

كلّ هذا بفضل ما تنطوي عليه الآيات القرآنية من تهذيب للنفس، ونزعة إنسانية تعم البشرية جمعاء.

 

المصدر: كتاب القرآن وعلوم الإنسان

ارسال التعليق

Top